قصة تكتب بقلم: حسين عبدالله
كنت أعمل كعادتي في محلنا لبيع الأجهزة الخلوية في بعلبك، عندما بدأنا نسمع أصوات انفجارات متتالية وصراخ يعلو من حولنا، واختناق مروري خانق في الشوارع. لم نلبث أن دخل عدد من الزبائن مسرعين، ليخبرونا أن عددًا كبيرًا من أجهزة “البيجر” التي كانت بحوزة المقاومين قد انفجرت. وقبل أن يُكملوا الحديث، سارعت إلى تشغيل جهاز التلفاز، فشاهدنا زملاءنا المراسلين وهم ينقلون مشاهد الدمار من الضاحية والجنوب، وصولًا إلى مختلف المناطق اللبنانية. كان ذلك في 17 أيلول 2024، يومًا لن أنساه أبدًا.
بعد دقائق، هرعت أتجول في احياء مدينتي للطمئنينا على سكانها و من تأذى منهم. وفي طريقي، أقود دراجتي النارية من نوع “Cros Baja”، بدأت سيارات الإسعاف تنتشر بكثافة في محيط بعلبك. بدا المشهد كأن السماء السوداء فوق المدينة كانت تستعد لأيام ثقيلة قادمة.
وفي اليوم التالي، لم يكن الصباح أكثر هدوءاً. تكرّر المشهد: هذه المرة كانت أجهزة اللاسلكي هي الهدف. اختناق مروري من جديد، وأبناء المدينة يصرخون مطالبين بفتح الطريق، وسط أصوات إنذارات تغطي كل شيء. بدأنا نسمع بأسماء الجرحى: من فقد عينه، من بُترت يده، ومن هو الآن على طاولة العمليات. بعد ساعات، بدأت أخبار الإصابات تتوالى إلى أهالي المقاومين في الجنوب، وكان المشهد مأساويًا بكل معنى الكلمة.
بعلبك، المدينة التي لطالما سُمّيت “خزان المقاومة”، عاشت يومها ذاك على وقع الحزن والانتظار، لكن نبضها لم يتوقف. في اليوم التالي، توجهت مجددًا إلى محلنا، وشغّلت التلفاز لأتابع إنجازات المقاومة في الجنوب، دعمًا لغزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي. كنت قد أرسلت قبلها بنحو نصف ساعة خبر عبر موقعي الإلكتروني الجديد، الذي أطلقته في الشهر الثاني من العام 2024، لأبدأ مسيرتي الإعلامية حتى قبل تخرجي من الجامعة.
لكن شيئًا في داخلي كان يهمس لي أن ما حدث لم يكن سوى البداية. رغم طمأنة والدي، شعرت أن ضربة الأمس ستشعل حربًا قادمة. تساءلت كثيرًا عن السيد حسن نصرالله، عن مصيره، وعن الشباب المحيطين به. بعدها، وصلني بيان من العلاقات الإعلامية في حزب الله يُعلن أن سماحة الأمين العام سيتحدث في الخامسة مساءً. لا أذكر التوقيت بالضبط، لكنني أذكر جيدًا كيف أزاح هذا الخبر ثقلًا عن قلبي. وظهر السيد حسن على الشاشة، ليواسي الجرحى، ويحيي التضحيات.
بعد أربعة أيام، اشتد القصف الإسرائيلي على الجنوب، والضاحية، والبقاع، وبدأت موجة نزوح كثيفة نحو الضاحية والبقاع. غصّت الطرقات بالسيارات والنازحين، وكنّا نوثّق المشهد وننقله عبر مجموعات موقعنا الإخباري على واتساب وتلغرام.
حينها، بدأ الخوف يتسلل إلى فريق عملي. انقطع الاتصال بشبكات الهاتف المحمول، فجمعت أرقام ذويهم وحاولت طمأنتهم قدر الإمكان. في تلك الليلة العصيبة، أرسلت لهم مقطعًا صوتيًا أؤكد فيه أن هذه المرحلة تتطلب تماسكنا، وأننا باقون لننقل الخبر بموضوعية رغم كل التهديدات والحرب النفسية التي تشنها بعض القنوات الموالية للعدو. بدأنا نعمل كأننا فرقة إنقاذ وسط الركام. واحدٌ في النبطية، آخر في الهرمل، وتلك في بيروت، وذاك في الشمال وأنا بين بعلبك ودمشق، نرسل الأخبار كمن يرسل شريان حياة للناس.
و بعد أيام قليلة، سقطت غارة إسرائيلية مفاجئة على الضاحية، ثم تتابعت الغارات على أحياء سكنية ومقاهٍ، بزعم استهداف مقرات تابعة لحزب الله. حتى قلعة بعلبك التاريخية لم تكن بعيدة عن دوائر الخطر.
قررت عائلتي النزوح إلى سوريا، بينما بقيت أنا ووالدي في بعلبك. كان قلبي منشغلًا بعائلتي المكوّنة من أمي وثلاثة إخوة صغار، تركناهم في سوريا دون معين. بعد أربعة أيام، استهدف العدو مبنى سكنيًا في منطقة المزة بدمشق. حملت ما تبقى من ملابسي ومعدات التصوير، وتوجهت بسيارتي إلى سوريا.
على مشارف بلدة دورس، بالقرب من مقام السيدة خولة، نفذ الطيران غارة على منزل الإعلامي علي حجازي. زدت السرعة خوفًا من غارات أخرى. في طريقي إلى سوريا، كنتُ أشعر أن الطرقات تبكيني، كما لو أن كل حجر عرفني، وكل شجرة تذكرت مروري تحت ظلها.
وعند الحدود بين لبنان وسوريا، فوجئت بالمشهد: مئات الأشخاص في سياراتهم وعلى الأرصفة، والهلال الأحمر السوري يوزع المياه والطمأنينة. انتظرنا خمس ساعات، لكنها مرّت بكرامة. قال لي جندي سوري على الحدود: “أنتم إخوتنا، نورتوا بلدكم الثانية.” لم أتمالك دموعي. دخلت الأراضي السورية وقلبي بين ضلوعي كأنه طبول المعركة، لا يهدأ.
عند وصولي إلى دمشق، التحقت بعائلتي التي كانت تقيم في شقة صغيرة في حي القصور، اتسعت لعائلتين رغم ضيقها. في الأيام الثلاثة الأولى، عانيت من ضعف الإنترنت، لكنني لم أهدأ، وكنت أخرج نهارًا مع رئيس التحرير و مراسل يعمل معي هناك. تجوّلنا في الشام القديمة، التي تدهشني كل مرة بجمالها رغم زياراتي المتكررة.
بعدها بأيام، تواصلت مع صديق لديه سيارة، نقلنا إلى ريف دمشق، حيث حصلنا على إقامة مجانية في فندق قديم. عند دخولنا، كانت الوجوه شاحبة من التعب والخيبة، لكنهم استقبلونا بترحاب، وانهالت الأسئلة المعتادة عن الأسماء والمدن والحرب. غرفتنا كانت أشبه بخرابة، وعلمنا لاحقًا أن الفندق كان مغلقًا منذ عشر سنوات وأُعيد فتحه خصيصًا لاستقبال اللبنانيين.
شيئًا فشيئًا، أصبحت مصدر الأخبار في الفندق، أنقل وأفسّر ما يقوله المحللون، لعدم وجود تلفاز. وبعد خمسة أيام، نقلت لهم خبر الغارة على مجمع سكني في الضاحية الجنوبية، بصواريخ تزن أكثر من 2000 طن، تلتها إشاعات عن استهدافات لطائرات العدو لأحد أحياء الضاحية، وبدأت مواقع التواصل تضجّ بخبر عاجل:
“استشهاد سماحة السيد حسن نصرالله.”
تجمّعنا في الفندق القديم الذي نحتمي به في ريف دمشق، عشرات العائلات، العيون مسمّرة على الهاتف الصغير في يدي. النساء بدأت تبكي قبل أن أقول شيئاً. الرجال شهقوا، وانقطع نفس المكان.
وأنا… أنا كتمت كل شيء، لم أعد أرى الحروف كانت دموعي تسبق لساني. سقطت الكلمة مني، وسقط معها الأمل. في اليوم التالي، أصدر حزب الله بيانًا أكد فيه استشهاد السيد حسن. لم أتمالك نفسي، وانهرت باكيًا، بالكاد تمكنت من قراءة البيان الذي يبدأ بهذه الكلمات: “انتقل العبد الصالح السيد حسن إلى جوار ربه…”. صرخات، إغماءات، حزن لا يوصف.
لكنني تذكرت حينها كلمته الشهيرة: “صدقوا ما ترون لا ما تسمعون.” بدأت أتمالك نفسي مجددًا، وأجمّع قواي.
في تلك الليلة، جلست قرب النافذة. المدينة نائمة لكني كنت أسمع أنفاسها، وأتخيل كل من أحبهم: أهلي في الشام، أصدقائي على الجبهات، وزملائي النازحين في مناطق متفرقة.
وسألت نفسي:
– هل ستنتهي الحرب؟
لا أعرف.
– لكن هل سنكمل رسالتنا؟
أكيد. لأن الكلمة في زمن الحرب، رصاصة لا تخطئ.
يتبع …
زر الذهاب إلى الأعلى