بقلم: الصحافي حسين عبدالله
لم يكن خطاب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، خلال مهرجان (العلماء الشهداء) في 5 كانون الأول 2025، مجرد إطلالة عادية تُضاف إلى سلسلة المناسبات السياسية والدينية التي يعيشها الحزب منذ شهور. بدا واضحًا أن الرجل يتحدث من موقع مختلف، في توقيت مختلف، أمام جمهور يعيش واحدة من أدق المراحل منذ انتصار تموز 2006 حتى اليوم.
الكلمة جاءت في لحظة سياسية وأمنية لبنانية مضطربة؛ بلد يبحث عن استقرار مفقود، وعن سلطة عاجزة، وعن معنى جديد للوجود وسط تحوّلات إقليمية تتسارع من فوق رؤوس اللبنانيين. ومن وسط هذا الضجيج، حاول الشيخ قاسم أن يعيد رسم الإطار: من نحن؟ أين نقف؟ وماذا نريد؟
العلماء الذاكرة الحارسة للسردية
من اللحظة الأولى، بدا أن الرجل يعيد ترميم حجر الأساس في بنية الحزب الفكرية: العلماء. ليس كرموز دينية فقط، بل كمنظومة قِيَمية أنتجت المقاومة، واحتضنتها، وحمتها فكريًا. عندما أسهب في ذكر أسماء الشهداء العلماء، لم يكن يقرأ لائحة بروتوكولية، بل كان يعيد ربط الجمهور بجذوره، بمدرسته، وبالمسار الذي يريد الحزب أن يُذكّر به بعد المرحلة القاسية التي عاشها إثر الاغتيالات.
كان هناك إصرار على القول: القيادة لم تهتز، بل أعادت تثبيت نقاط ارتكازها.
هوية الحزب مشروع مجتمع لا ميليشيا
من المرات القليلة التي يتوقف فيها خطاب سياسي بهذا الوضوح عند العلاقات مع التيار الوطني الحر، ومع جمهور متنوّع من العلمانيين والشيوعيين والمسيحيين، وحتى استذكار الاستقبال الشعبي للبابا في بيروت. بدا الخطاب أقرب إلى مراجعة مفتوحة لهوية الحزب داخل النسيج الوطني، لا سيما بعد الحملات الداخلية التي سعت إلى تصويره كقوة مذهبية مغلقة.
الشيخ قاسم أراد أن يذكّر بأن الحزب لم يكن يومًا حالة داخل طائفة، بل مشروع مجتمع قائم على الدمج بين الديني والسياسي والاجتماعي، دون إقصاء أحد.
إسرائيل العدو الذي يبدّل الواجهة ولا يغيّر الهدف
الجملة المفصلية في الخطاب: (إسرائيل تريد أن ترسم مشروعها التوسعي من بوابة لبنان).
هذه ليست عبارة عابرة. هي تلخيص لوجهة نظر الحزب تجاه الأزمة الحالية: المشكلة ليست في سلاح المقاومة، بل في مشروع إسرائيلي – أميركي يمتد من الغاز البحري إلى الحدود إلى الكيان اللبناني نفسه.
الإشارة إلى أن (إسرائيل لا تلتزم باتفاق، بينما التزم لبنان)، ليست دفاعًا عن موقف تفاوضي بل إعادة وضع الخطر في حجمه الطبيعي: إسرائيل لا تبحث عن هدنة، بل عن لحظة ضعف لبنانية.
السلاح… قضية بقاء لا نقاش سياسي
الجزء الأكثر حساسية في الخطاب كان حديثه عن محاولات (تجفيف المال، وقف الخدمات، إقفال المؤسسات) كوسيلة لنزع سلاح المقاومة. أراد الرجل أن يقول إن النقاش حول السلاح لم يعد نقاشًا تقنيًا أو عسكريًا، بل نقاش حول وجود الحزب ودوره وركيزته الاجتماعية.
وهذا طرح يعيد ترتيب المشهد الداخلي: التفاوض على السلاح في نظر الحزب أصبح جزءًا من محاولة إلغاء وجوده، لا تنظيم دوره. وبالتالي، أي نقاش في الاستراتيجية الدفاعية لن يكون ممكنًا خارج معادلة (الدفاع عن الحق في البقاء).
رسائل موجّهة بقسوة نحو الداخل
الفصل الذي تناول فيه الشيخ قاسم «شهادات الوطنية» لم يكن خاليًا من الغضب. بدا أنه يرد على سلسلة طويلة من الاتهامات التي وُجّهت للحزب خلال الأسابيع الماضية، خصوصًا من قوى سياسية تستفيد من الضغط الدولي والإقليمي لتكريس خطاب مضاد للمقاومة.
هو لا يرفض الخلاف السياسي، لكنه يرفض أن يتحوّل هذا الخلاف إلى استقواء بالخارج. وفي لبنان، هذا النوع من الرسائل لا يمرّ من دون أصداء.
الدولة الغائب الأكبر
عندما توجّه الشيخ قاسم بالسؤال المباشر للحكومة:
(أين خطة مواجهة العدوان؟ أين تحرير الأسرى؟ أين الإعمار؟ أين الاقتصاد؟)
كان يُحمّل السلطة مسؤولية غيابها الكامل عن المشهد. بل كان يقول ضمنًا: الدولة التي لا تأتي بخطتها بنفسها، لن تُمنح شرعية من الخارج مهما حاولت.
هي إعادة تثبيت لمعادلة يعرفها اللبنانيون جيدًا: الدولة التي لا تحمل مشروعًا، يملأ الآخرون فراغها.
بين الخطوط… خطاب لمرحلة تثبيت الذات
بعيدًا عن التفاصيل، يمكن قراءة الخطاب كجزء من عملية ترميم شاملة يجريها الحزب لنفسه بعد مرحلة صعبة أمنيًا وسياسيًا.
كان الشيخ قاسم يضع قواعد المرحلة المقبلة:
– لا تنازل عن معادلة الردع.
– لا مساومة على وجود المقاومة.
– انفتاح سياسي مضبوط لا يقوم على عقد صفقات بل على تثبيت الشراكات السابقة.
– حماية الخطاب الوطني من التحوّل إلى انقسام طائفي جديد.
– تذكير الدولة بأنها لا يمكن أن تطلب صلاحياتها وهي لا تقوم بواجباتها.
الخطاب لم يحمل لهجة حرب، لكنه لم يترك مجالًا للالتباس: المقاومة لن تتراجع، لكنها ليست في وارد فتح مواجهة واسعة، إلا إذا فُرضت عليها.
الخلاصة:
وأنا أكتب هذا المقال، بدا لي أن الشيخ لم يخاطب جمهور الحزب فقط، ولا بيئته الداخلية، بل خاطب اللبنانيين جميعًا، وكأنه يقول: نحن في لحظة إعادة تعريف وطن… لا إعادة تعريف حزب.
خطاب الشيخ قاسم لم يكن هجومًا، بل تثبيتًا لاتجاه. كان خطابًا يطلب من اللبنانيين أن ينظروا إلى المشهد من خارج ضجيج اللحظة، وأن يدركوا أن الأسئلة التي تُطرح الآن ليست هامشية، بل تتعلّق بمستقبل وطن كامل.
زر الذهاب إلى الأعلى