أخبار لبنانالرأي

رسالة من امرأة جنوبية إلى قداسة البابا: نناديك اليوم قبل أن تصل، وسنصلّي قبل أن تغادر.

 

نناديك اليوم قبل أن تصل،

وسنصلّي قبل أن تغادر.

يا قداسة البابا،

أكتب إليك لا ككاتبة، ولا كسياسية، بل كإنسانة تقف على حافة وطنٍ يتداعى…

أنا ابنة الجنوب، تلك الأرض التي عرَفت وجوه الأنبياء كلّهم،

لكنها اليوم لا تعرف غير الدخان والركام.

أنا ابنة القرى التي غنّت للمحبة،

والآن لا تسمع سوى ارتجاف الجدران كلما مرّ الخوف بقربها.

أنا ابنة الأرض التي تعمّدت بماء موسى، وباركها مسيحك،

وأذن مؤذنها باسم الله…

اكتب اليك من أرضٍ واحدة، ودمٍ واحد، وسماءٌ واحدة،

لكنها تُترَك وحدها في وجه العاصفة.

أنا امرأة جنوبية…

تقول بطاقتي إنني شيعية،

وتنسبني الألسُن تارةً للسنية،

وتميل روحي فتحترم المسيحية،

بينما تتذوّق نفسي الحكمة الدرزية

مؤمنة أن كل الأديان هي أديانٌ سماوية

لأنني ببساطة ابنة ذاك الجنوب،

الذي توضأ بماء موسى،

وصلى في محراب عيسى،

وسجد لدين محمد.

فمنذ أن ولدت ولدتُ حرّة لا أحمل حقدٍ ولا غلٍ ولا عنصرية.

ولدتُ بقلبٍ لا يعرف سوى أن يحمل وردة بيضاء للسلام ويدافع من أجل القضية.

أنا ابنة صور…

تلك المدينة التي لم ولن تركع،

ولو ارتجفت حجارتها من تعب السنين.

وكلما مشيت فوق تراب الجنوب،

خلعتُ نعالي وانحنيت احترامًا وقدسية

قداسة البابا،

قبل أن تحضر،

كنت أتمنى أن يقولوا لك كل الحقيقة المنسية

حقيقة هذا البلد الذي يتظاهر بالإبتسامة ويبكي فجراً وعشية

ليتهم يخبروك قبل أن تأتي،

أن لبنان اليوم منهك… متعب… مثقَل بالجراح

شعب وأرضاً وهوية ؟

هل أخبروك أنّ العدوَّ الإسرائيليَّ

يحفرُ في خرائطِنا حُفَرًا سرّية

ويُعيدُ رسمَ حدودٍ

كأنَّ لبنان مجرّدُ “أرضٍ شاغرةٍ”

في مذكّراتهِ التوسّعيّة؟

هل أخبروك أنّه كلَّ يومٍ

يبني روايةً وهميّة

ويُسقطُ عليها حقائقَ مختلقة

ليشرعنَ أطماعَهُ العدوانيّة؟

هل ترضى يا قداسةَ البابا

أنتَ وكلَّ الطوائفِ المذهبيّة

أن يُنصَّبَ العدوُّ الإسرائيليّ

قاضيًا على الجغرافيا

ويُملي على الإنسان هويّة؟

وهل ترضون أن تُقاسَم البلادُ

كما تُقاسَمُ الغنيمةُ في عقلِ

عصابةٍ احتلاليّة؟

هل أخبروك أن هذا العدو قتل منّا ثلة فرساننا وشبابنا،

وأن الوجع ما زال مقيمًا في صدور الأمهات،

ودموع زوجاتهم وأنين أطفالهم والنزف لم يتوقف من روح الجنوب؟

هل أخبروك أن بيوتنا تشعر بالتعب أكثر من جدرانها،

وأن أطفالنا يتعلمون معنى الخوف قبل الحروف،

وأن ليالي الجنوب أطول مما يراه العالم؟

هل أخبروك أن بعد مغادرتك،

يتوعدوننا؟

يهددون بأن الهدوء الذي يرافق زيارتك

ليس سوى استراحة قبل العاصفة؟

هل أخبروك أننا نحاول أن نحمل زيارتك على غصن زيتونة سلام،

لكن النار التي ينتظرون إشعالها بعد رحيلك

تحرق حتى ظل الزيتون؟

هل أخبروك أن ما ينتظرنا

يشبه الجحيم…

جحيمًا لا يريد العالم أن يسمع أنينه؟

قداسة البابا،

من أرضٍ لا تسقط رغم كل ما وقع عليها،

ومن شعبٍ لا يطلب المعجزات بل الحدّ الأدنى من الحياة،

أرفع إليكم هذا النداء:

نطلب كلمة توقف هذا الانزلاق نحو المجهول.

نطلب صرخة تُسمِع صمت العالم أننا ما زلنا هنا…

نطلب أن يكون صوتكم سدًّا أمام التهديد،

وأن تكون زيارتكم حماية،

لا هدنة قصيرة تُستباح بعدها الأرض.

نطلب أن تقولوا للعالم

إن الجنوب ليس ساحة مفتوحة للموت،

ولا دفترًا للفواتير السياسية،

ولا خريطة تُرسم فوقها خطوط النار.

قولوا لهم إن الإنسان أغلى من الحرب.

وإن السلام ليس رفاهية بل ضرورة للبقاء.

وإن العدل وحده يوقف النزف…

نَزف الأرض ونَزف الأرواح.

قداسة البابا،

نريد من زيارتك أن تكون صرخة… لا مجاملة.

نريدها أن تخترق أبواب العواصم، لا أبواب الكنائس فقط.

نريدك أن تقول للعالم إنّ الجنوب ليس خارطة،

بل حياة تُمحى كل يوم.

نريدك أن تقف معنا،

أن ترفع صوتك فوق ضجيج الصمت الدولي،

أن تطالب بحماية المدنيين،

أن تُذكّرهم بأن الإنسان – أي إنسان –

ليس تفصيلًا صغيرًا في حرب كبيرة.

قداسة البابا،

نخاف أن تزورنا اليوم…

ثم نُترَك غدًا وحدنا،

نُعدّ خسائر الليل الذي يلي الزيارة.

نخاف أن يكون السلام كلمةً تُقال،

وأن يبقى الجحيم مقيمًا خلف أبوابنا.

يا قداسة البابا،

نقسم عليك أن تحملوا معنا هذا الجنوب…

فبمسيحك، وبإنجيلك، بتوراتهم وقرآننا، نقسم عليك…

أن تجعل هذه الزيارة وعدًا لا يُنقض، وصوتًا لا يُخمد، كي لا يبقى وحده عند حافة الجحيم.

بقلم : هنادي عباس

كاتبة ومستشارة قانونية دولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى