أخبار فلسطينمقالات

دُفنوا بعشوائية.. الغزيون يواجهون أزمة قبور للشهداء والمتوفين

حينما أبلغ الطبيب بقسم الطوارئ في المستشفى المعمداني بمدينة غزة، أقارب سُمية صيام (30 عاما) بنبأ استشهادها، اختلطت لديهم مشاعر الحزن بالحيرة، فظروف الحرب في قطاع غزة، تجعل العثور على قبر لدفن الشخص الميت أمرا بالغ الصعوبة.

فبعد تكفين الشهيدة، أخذ أقاربها يسألون السكان عن كيفية العثور على قبر، فأخبرهم أحد الموجودين أن أهالي بعض الشهداء بدؤوا في دفن جثامينهم في قطعة أرض تقع أقصى شمال حديقة المستشفى المعمداني، فتوجّه ذوو الشهيدة إلى تلك المقبرة العشوائية، وحددوا مكانا للقبر، قبل أن يجدوا أنفسهم أمام تحدٍّ جديد، يتمثل في كيفية حفر القبر وبنائه وتغطيته.

جمعوا بعض الحجارة من بقايا حطام منزل مجاور دمرته قوات الاحتلال، وأتموا بناء القبر، واستبدلوا بالبلاطات الإسمنتية التي من المفترض أن تغطي فتحته العلوية، لوحا من الصفيح، ومن ثم دفنوا شهيدتهم، وأهالوا عليها التراب.



وبالقرب من القبر، تقول صمود صيام، أخت زوج الشهيدة، إن العائلة ترغب في نقل جثمانها بعد الحرب، لدفنه في مقبرة رسمية، وتضيف للجزيرة نت “هذا المكان ليس مقبرة، اضطررنا لدفنها هنا لأننا حاليا لا نستطيع نقل الجثمان، لكننا سننقله بعد الحرب”.

وبفعل إجراءات الاحتلال، يضطر سكان شمالي القطاع إلى دفن الشهداء والموتى في مقابر عشوائية، أقيمت في الحدائق والشوارع وباحات المؤسسات وبعض الأراضي الخاصة، بينما تقع المقبرة الرئيسية المخصصة لمنطقة شمالي قطاع غزة بالقرب من السياج الفاصل مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما يحرم السكان من إمكانية دفن موتاهم فيها.



حال الوفاة مختلف

متقدما 3 رجال يحملون الفؤوس، يجوب ياسر أبو صفر مقبرة دير البلح وسط قطاع غزة، باحثا عن مكان متاح، بين القبور المتلاصقة، لحفر قبر جديد لدفن جثمان سيدة مسنة نازحة متوفاة، ولمّا لم يجد، توجّه إلى أحد العمال الذين يحفرون قبورا جديدة، طالبا منه شراء قبر جاهز، ليفاجأ أن تكلفته تصل إلى 600 شيكل (حوالي 160 دولارا)، لكنه مبلغ كبير يتعذر على ذويها دفعه.

يقول أبو صفر للجزيرة نت “جارتي عمرها 70 عاما، توفيت، وهي مسنة نازحة من شمالي القطاع، وأنا أساعد أهلها في دفنها، لكن أهلها غير قادرين على دفع هذا المبلغ، ماذا يفعلون؟ هل نتركها دون دفن؟”، وأضاف “هذا ما يسمونه موت وخراب ديار”.

وبرر العامل ارتفاع سعر القبر بقوله “القبور للشهداء مجانا، ولكنها لحالات الوفاة الطبيعية ليست مجانا، أهالي المتوفين يجب أن يدفعوا تكلفة القبر فقط، كل شيء غالٍ، الحجارة والإسمنت والبلاطات، وأجرة الحفر”.



حال حفاري القبور

منذ 28 عاما، يعمل سعدي بركة في دفن الموتى في مقبرة “السويد”، أكبر وأقدم مقابر مدينة دير البلح، لكنه لم يتخيل يوما أن يضطر لبناء قبور، فوق بعضها.

ويقول بركة للجزيرة نت إن المقبرة البالغة مساحتها نحو 35 دونما (الدونم ألف متر مربع) شهدت بناء “طابق ثان” من القبور، لدفن الآلاف من جثامين الشهداء، ويضيف “أخشى أن نضطر بعد شهرين من الآن، لبناء طابق ثالث”، ويوضح أن الجرافات تضع طبقة من الرمال فوق القبور، ويتم بناء قبور جديدة فوقها.

ومنذ بداية الحرب، عايش بركة الكثير من الأهوال التي اضطرته إلى حفر القبور الجماعية لدفن عائلات بأكملها، ولجأ إلى بعض العلماء لأخذ فتاوى فقهية حول بعض أحكام الدفن وفق الشريعة الإسلامية التي لم يعايشها سابقا، مثل دفن النساء والرجال معا في القبور الجماعية.

وفي هذا الصدد يقول “في بعض الأحيان، كنا ندفن العشرات في قبر واحد، أذكر أنني دفنت 135 شخصا في قبر واحد، ودفنت 76 شخصا في قبر واحد”، وبحسب الفتاوى التي يعمل بها بركة، فإنه يضع المرأة بجوار زوجها وأولادها، ثم يضع ساترا من حجارة أو صفيح، ثم يضع بقية أفراد الأسرة.

ويشكو بركة من غياب أي دعم لعمليات دفن الشهداء، مستثنيا بلدية دير البلح التي قال إنها تمول كامل عمليات الدفن، وتوفر الآليات والحجارة والإسمنت، وتدفع أجرة عمال الحفر، لكنه وبالإضافة إلى غياب الأرض اللازمة لحفر القبور، يعاني العاملون في دفن الشهداء من ارتفاع أسعار الحجارة والإسمنت.

وفي هذا السياق، يقول بركة “كان سعر الحجر قبل الحرب يكلّف حوالي شيكلين، واليوم 10 شواكل، وكان سعر كيس الإسمنت 18 شيكلا، واليوم 220 شيكلا”. وتوقف بركة عن عملية إعادة تدوير حجارة المنازل المدمرة، حيث يقول إنها أكثر تكلفة من شراء الحجارة الجديدة، بسبب صعوبة جمعها وتنظيفها.

لكن أحد أشد الأمور إيلاما التي عايشها بركة كانت دفن الجثامين المتحللة، والتي يتم جمعها وانتشالها، وكذلك دفن الأكياس الممتلئة بأشلاء الشهداء.

مسألة خطيرة

يرى مدير عام مكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة أن توزيع المقابر، قبل الحرب، كان “منطقيا” بالنظر إلى نسبة الوفيات الطبيعية، لكنه يستدرك في حديثه للجزيرة نت أنه “بعد حرب الإبادة الجماعية فقد جرّف الاحتلال وهدم 60 مقبرة، ونبش 1500 قبر”.

وذكر أنه إضافة إلى ذلك تم منع الفلسطينيين من الوصول إلى عدد آخر من المقابر القريبة من أماكن وجود جيش الاحتلال، “والكارثة أن هذه الاعتداءات تأتي بالتزامن مع الارتفاع الكبير وغير المسبوق في أعداد الشهداء والوفيات، بشكل لم يشهد له قطاع غزة مثيلا من قبل”.

وأشار الثوابتة إلى أن عدد الشهداء الذي يصل إلى 39 ألفا، ويُضاف لهم آلاف حالات الوفيات الطبيعية طوال مدة 9.5 شهور، شكّل أزمة حقيقية في ظل نقص القبور والمقابر.

ولفت إلى أن الطواقم الحكومية لجأت إلى إجراءات بديلة كي يتم دفن جثامين الشهداء والموتى بصورة تحفظ كرامتهم، ومنها مواراة عائلات بأكملها في قبر واحد، واستخدام بدائل للباطون والحجارة كالخشب والصفيح.

وأشار إلى أن قطاع غزة، سيشهد بعد الحرب “مشكلة مؤلمة” تتمثل في نبش القبور ونقل الأهالي جثامين أبنائهم من المقابر العشوائية إلى مقابر رسمية، وهو ما ينذر بمشاكل اجتماعية وصحية تهدد المجتمع والبيئة.

وأوضح أن نقص القبور والمقابر قد يُشكّل خطرًا على الصحة العامة، حيث يمكن أن تصبح مصدرًا لانتشار الأمراض والأوبئة والميكروبات في حال عدم التعامل السليم معها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى