تحل ذكرى #4 آب هذا العام وأنا مرة أخرى بعيدة جغرافياً، وليس ضمنياً، عن تلك المدينة التي لم تلتئم جراحها بعد،بل زادتها الذكرى ألماً بفاجعة جديدة أزهقت أرواح أهلها في ضاحيتها وجنوبها، وكأن تراب هذه العاصمة متعطش دائما إلى الدم والقهر والظلم.
هذا العام دُعيت إلى مؤتمر في الهند حول دور الإعلام في تعزيز الحوار بين المعتقدات والأديان. يا لسخرية القدر أن أخاطب شعباً يوالف بين بعضه أكثر من ثلاثين ديناً ومعتقداً، وأن أحاضر وسط أمة تخطّت الاختلافات وغاصت في الابتكارات والإنجازات! وطبعاً، لا أملك وسيلة لانتقادها على موقفها من الكيان الصهيوني سوى أن أستعرض الخط الزمني لحروبها على أرضنا وأهلنا.
ولكن المفارقة حين تقاطعت مع تلك الحروب الإسرائيلية الحروب الأهلية التي التهمت اقتصادنا وثقافتنا ولُحمتنا، وتبعها #انفجار المرفأ، أو بتعبير أصحّ، تفجير #بيروت.
تلك المجزرة التي نفّذها قادة مريضون بشراهة السلطة، وقتلوا عمداً كلّ من صادف أن كان جاراً في هذه المدينة الثكلى. تحدّثت عن تلك الساعة السادسة وست دقائق في الرابع من آب، ومن دون تفاصيل رأيت المقل تحبس الدموع فيها خوفاً من جرح مشاعري. ولكنهم لا يعلمون، حتى لو كانوا يدرون، أن جراحنا متواترة، وأننا منقسمون في مصائبنا. وآثرت عدم الغوص في فضائحنا الوطنية والقومية أمام أمة كانت من أفقر دول العالم، وتحوّلت إلى خامس أقوى اقتصاد في العالم، بفضل اتباع سياسات تعليميّة معاصرة والاستثمار في العلم والتعليم.
وبعد دقائق، أستمع لمداخلة زميل، مدّع عام في إحدى دول اميركا الشمالية، يقول فيها جملة اخترقت قلبي قبل مسمعي:”العدالة تشفي حتماً، ولكن الإنصات يشفي أيضاً”
لو شعرنا بأن أصواتنا وأنيننا وصراخنا كانت مسموعة في داخل أروقة المحاكم والمجالس والمكاتب لكانت نارنا أبرد ولو قليلاً، ولكننا لم نسمع حتى صدى، باستثناء أصوات اتهامنا بعضنا البعض بالخيانة والعمالة والانجرار وراء الفتنة.
بعد انقساماتنا في ثورة تشرين، جاء الرابع من آب متبوعاً بالثامن منه بتظاهرة حاشدة وعنيفة ليجمع فتات شملنا سوياً حول قضية وطنية موحّدة. ولكن الأمل لم يدم. عادت الانقسامات إلى أن وصلت إلى عائلات الضحايا، لتتفكك مجداً بين معسكرين، ضمن محوري ٨ آذار و١٤ آذار.
لا أدري إن كنا في لبنان تركنا يوماً من أيام السنة من دون منحها أسماء حروب أو تفجيرات أو مجازر أو تحالفات سياسية سخيفة. فالسياسة باتت سخيفة وسطحية ومن دون فكر أو رؤية. وفي بلاد الأرز نبحث عن الاختلافات في كومة تشابهات كالبحث عن إبرة في كومة قش.
انقسم لبنان في قضية المرفأ، كما ينقسمون اليوم في قضية الحرب على الجنوب والغارة الإسرائيلية على الضاحية، ليلوِّثوا قدسية الضحايا المدنيين بالاختلافات السياسية والخطابات الانقسامية. الطفلان حسن وفاطمة لا يفقهان أمراً في السياسة، ولا في الدين، وكلّ ذنبهما الجغرافيا والتوقيت، وربّما شهادة الميلاد.
وفي خضم كلّ هذه الفوضى النفسية والسياسية والإيديولوجية، تعوم التشابهات فوق الاختلافات في الملاهي الليلية والمطاعم والمهرجانات، وفجأة تختفي التوترات بعد أن يمتزج الحقد بكأسين أو ثلاثٍ من التيكيلا والفودكا والجين، لتعيش بيروت وباقي المدن بسلام ورخاء على ألحان الحفلات والسهرات. ولكن سلام الليل يمحوه النهار، حين تروح السكرة وتجي الفكرة، ليعود الإعلام ليذكّر السكارى بالانقسامات، و أحياناً كثيرة يعزّز تلك الاختلافات بخطابات ضوضاء ولغة عوجاء، لنصل إلى مرحلة لا نقضي فيها على المجرم والمتواطئ والفاسد والمهمل، بل ننقضّ على بعضنا ونقتل الضحايا مرّتين وأكثر.
أربعة أعوام، والمتهم معلومٌ بضمير غائب، ألف وأربعمئة وستون يوماً وملف تفجير المرفأ يتجول من مكتب إلى آخر، و من جارور إلى خزنة، وكأن الحقيقة “الو كيس” سيبتلع كلّ المتواطئين والمهملين و الفاسدين.
يتقاذف المجرمون التهم ويحميهم القضاة المرتشون كما يساندهم الساسة الوقحون. كلّكم متّهمون، وعليكم اللعنة إلى يوم الدين!
ولكننا لو كنا متوحّدين، وصفوفنا متراصّة، واكتسبنا دروساً من السّابقين، وتركنا للعبادة كلّ دين الحساب فيه لرب العالمين،لكنا أنصفنا أنفسنا وجميع المختلفين.
ذكرى 4 آب بعد أربع سنوات تضاعف الألم والجراح أربع مرات وأكثر بحرب نفسية وعسكرية وميدانية.
زر الذهاب إلى الأعلى