عقوبة الستة أشهر … حين تتقاطع آداب المهنة مع الكلمة الحرة

قراءة قانونية حول التأديب وحرية التوعية القانونية في قضية المحامية المتدرجة رلى دايخ
هل دوخة الجمهور أم دوخت المهنة؟
ترتكز هذه القراءة على أحكام قانون تنظيم مهنة المحاماة في لبنان (المرسوم-الاشتراعي رقم ٨١/٧٠)، لا سيما المواد التي تمنح مجلس التأديب صلاحية فرض العقوبات التأديبية، والمواد المتعلقة بآداب المهنة التي تُلزم المحامي بالتحفّظ واحترام كرامة المهنة. ويُراعى في ذلك المادة ١٣ من الدستور اللبناني التي تكفل حرية إبداء الرأي ضمن حدود القانون، بما يفرض توازنًا بين الضبط التأديبي وحرية التعبير المهني.
تثير قضية منع المحامية رلى دايخ من مزاولة المهنة لمدة ستة أشهر نقاشًا حول الحدود بين السلطة التأديبية للنقابة وحرية المحامي في تقديم محتوى قانوني عبر المنصات الرقمية. تستند النقابة في قرارها إلى صلاحياتها القانونية لضبط السلوك المهني ومنع أي مظهر يمكن اعتباره ترويجًا أو تسويقًا يخالف آداب المهنة، كما نص عليه القانون والنظام الداخلي.
مع ذلك، من الضروري التوقف عند جوهر الفعل المنسوب. المحتوى الذي قدّمته دايخ يدخل، بموضوعية، في إطار التوعية القانونية العامة، وهو أمر لا يُحظره القانون بذاته. الشروط الأساسية التي قد تحول المحتوى إلى مخالفة قانونية تشمل: الاستشارة الفردية، إفشاء سر مهني، التعليق على ملفات قضائية منظورة، أو المساس بهيبة القضاء.
هنا يبرز السؤال: هل المشكلة في المضمون نفسه أم في طريقة العرض؟ وهل يُعتبر استخدام أسلوب إعلامي عصري نوعًا من “التسويق الممنوع” أم مجرد تحديث لأدوات الخطاب القانوني؟
تنص المادة ٩٩ من قانون تنظيم مهنة المحاماة على أن:
“كل محام، عاملاً كان أو متدرجًا، يخل بواجباته المهنية أو يسلك مسلكًا لا يأتلف وكرامة المهنة، يتعرض للعقوبات التأديبية التالية: التنبيه، اللوم، المنع من مزاولة المحاماة مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، أو الشطب من جدول النقابة.”
العقوبة الموقعة على دايخ — منع المزاولة لمدة ستة أشهر — تُعد من العقوبات الثقيلة، ويجب أن يُطبق مبدأ التناسب بحيث لا تُستخدم العقوبات القصوى إلا في حالات الإخلال الجسيم. فإذا اقتصر الفعل على توعية عامة لا تمسّ سرية أو قضايا منظورة، تصبح العقوبة عرضة للنقاش وربما للطعن، إذ قد تبدو غير متناسبة مع طبيعة المخالفة.
من المهم مراعاة النية والضرر الفعلي الناتج عن الفعل، والتأكد من أن العقوبة تتناسب مع جسامة الانتهاك ومدى تأثيره على المهنة وكرامة النقابة. كما يجب أن يكون التأديب متدرجًا وعادلاً، فلا يمكن فرض أقصى العقوبات على مخالفة بسيطة أو اجتهاد شخصي لم يهدف للإساءة عمدًا، بل يجب أن يكون هناك رابط واضح بين الفعل والانحطاط المهني أو المساس بكرامة المهنة.
في هذا السياق، يبرز التحدي الثقافي والمجتمعي: المهنة تواجه تحديًا بين الحفاظ على هيبتها ومواكبة العصر الرقمي. الناس باتوا يتلقّون المعرفة القانونية عبر المنصات القصيرة والسريعة، والمحتوى القانوني لم يعد محصورًا في المقالات أو الندوات التقليدية. حماية المهنة أمر أساسي، لكنها لا تتحقق عبر إغلاق النوافذ الرقمية، بل عبر تنظيم طريقة الظهور بما يحافظ على هيبة المهنة.
القضية إذن لا تختصر باسم شخص، بل تطرح سؤالًا مهنيًا أوسع: كيف يمكن للمحاماة الحفاظ على وقارها من دون قطع صلتها بلغة العصر؟ وكيف يمكن للنقابة أن توازن بين سلطتها التأديبية وحق المحامي في ممارسة دور تثقيفي مشروع؟
هذا الجدل هو بداية نقاش أوسع حول “المهنة في الزمن الرقمي”، ونموذج النقابة المطلوب ليبقى القانون حيًّا، مفهوماً، ومتاحًا للجمهور، مع احترام المبادئ القانونية والأخلاقية للمهنة
هنادي عباس
كاتبة ومستشارة قانونية دولية




