في ما يشبه إعادة ترتيب للخريطة الإقليمية، وجد لبنان نفسه مجددًا في قلب العاصفة. لا حرب شاملة تنفجر، ولا تسوية كبرى تُعلَن، لكن خطوط النفوذ تُعاد رسمها بهدوء صاخب، وتحت ظلال تصريحات واضحة تحمل معاني أبعد مما تبدو عليه. حين تقول إيران إن مسألة سلاح حزب الله شأن لبناني خالص، فهي لا تُلغي دورها ولا تنسحب من المشهد، بل تعيد تموضعها داخل المعادلة: مسؤولية السلاح بين الدولة والحزب، والرسالة موجّهة للخارج أكثر مما هي للداخل. كأن طهران تقول لواشنطن والرياض وتل أبيب: “ابحثوا عن الحل عند بيروت، وليس عندنا”.
الزيارة الأخيرة لمورغان أورتاغوس لم تكن بروتوكولًا سياسيًا عابرًا. جاءت محمّلة بإشارات لا لبس فيها: حوار مدني داخل الوفد، كأن المطلوب إعطاء صورة جديدة عن لبنان على طاولة المفاوضات، وإظهار نافذة تطبيع ما، صغيرة لكن محسوبة. واشنطن تعرف أن أي تقدّم في المفاوضات مع إسرائيل لا يحصل إلا حين يشعر الطرف المقابل بأن النار قريبة من أصابعه. لذلك كان الضغط على المقاومة جزءًا من لعبة تحسين الشروط، وليس خطوة عبثية.
على خطٍّ موازٍ، يظهر الدور السعودي بنسخته الجديدة. السعودية تعود إلى لبنان، لكن لا كقوة صانعة للأحداث كما في العقد الماضي، بل كضامن إقليمي أو وسيط غير معلن. تأثيرها اليوم سياسي–اقتصادي، يمر عبر دعم قوى محددة وتثبيت خطوط حمراء، أكثر مما يمر عبر تدخل مباشر أو أدوات صدام. الرياض صارت تقرأ لبنان من خلال ميزان القوى الإقليمي، لا من خلال طموحات النفوذ القديم. هدفها الواضح: الحدّ من تأثير طهران، ولكن من دون إشعال الساحة اللبنانية.
وسط هذه الحركة الثلاثية – الأميركية، الإيرانية، السعودية – تُطرح جدية السؤال: هل نحن أمام تسوية شاملة؟
المشهد يوحي بوجود “سلة” غير مكتملة: رئاسة، حكومة، ترتيبات جنوبية، وربما قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل. لكن كل الأطراف تتصرف كأن الوقت لم يحن بعد لكشف الأوراق كاملة. الجميع يريد تحسين موقعه قبل لحظة التوقيع، والجميع يدرك أن لبنان لم يعد الساحة التي يمكن اللعب فيها دون حساب.
إسرائيل، التي تحاول دفع مسار التفاوض قدمًا، لا تزال متمسكة بثنائية: سلام بلا أثمان، وضمانات بلا تنازلات. والمقاومة، من جهتها، تعلن بوضوح أن أي تغيير في الجنوب أو أي تفاوض جدي لا يُصنع إلا تحت ضغط النار، لا تحت ضغط الابتسامات الدبلوماسية. بين الطرفين، يقف لبنان الرسمي كمتلقٍ للضغوط أكثر مما هو صانع لها.
في حصيلة هذه اللحظة، يقف لبنان على خيط رفيع:
لا انفجار كامل، ولا حل نهائي.
بل إدارة أزمة طويلة تُدار فيها المفاوضات كما تُدار المعارك… على وتيرة واحدة، وبأعصاب مشدودة.
هذا الزمن يولّد مقالات سياسية تستحق القراءة بتأنٍ، لأنها تكشف أن لبنان ليس مجرد ساحة صغيرة في لعبة كبرى، بل عقدة أساسية في شبكة صراع تتغير معالمها من طهران إلى واشنطن، ومن الحدود الجنوبية إلى قصور القرار العربي.
وما يجري اليوم، مهما بدا ضبابيًا، سيُكتب غدًا كمرحلة فاصلة في تاريخ ما بعد الحرب.
هنادي عباس
كاتبة و مستشارة قانونية ودولية
زر الذهاب إلى الأعلى